سئل بنيامين دزرائيلي عن الكذب وقد تولي رئاسة الوزارة البريطانية
مرتين في عهد الملكة فيكتوريا
في القرن التاسع عشر
فقال هو علي
ثلاثة أشكال
الكذب الصريح
والكذب الملعون
والإحصاء.
وقد نسب البعض تلك العبارة
للكاتب الأمريكي الساخر مارك توين.
وربما نسبت إلي غيرهما
ولكنها تظل عبارة مثيرة
للاهتمام والانتباه في زمن
يهتم أهله كثيرا بالأرقام والإحصاءات
الكثيرون يرونها الحقيقة ولا شيء غيرها
وهؤلاء يقولون إن الأرقام لا تكذب.
ولكنهم ينسون في احتفائهم الشديد
بالأرقام أن الإحصاء علم تحكمه
في النهاية الاحتمالات
ولذلك هو علم لا يعبر بالضرورة عن الحقيقة.
وقد لقي الإحصاء الكثير من
الانتقادات الساخرة علي
ألسنة مفكرين وفلاسفة وسياسيين.
فقد قال احدهم
عذب الأرقام وسوف تعترف لك بكل شيء,
ونقل عن ستالين قوله
تعليقا علي خطاب ونستون تشرشل
إن موت رجل واحد يعد مأساة,
ولكن مقتل الملايين يتحول إلي إحصائية,
وقال آخر
الإحصائيات مثل المرأة
مرآة تعكس أنقي صور الفضيلة والحقيقة
وهي أيضا
مثل بائعة الهوي تستخدمها كيف تشاء.
فالإحصاء قد يستخدم
لتضخيم مشكلة أو التهوين من تأثيرها
أو تعظيم إنجاز والنيل من آخر..
في صحافة العالم
وسيلة دعائية مستخدمة بكثرة
تسمي التحايل باستخدام الإحصاء.
فحينما أعلنت الحكومة الأمريكية
عن تخصيص15 مليار دولار
لمكافحة الإيدز في إفريقيا
كانت تلك مكرمة أمريكية
هائلة حظيت باهتمام العديد من الصحف.
ولكن الحقيقة
هي أن تلك المليارات الخمسة عشر
كانت ستنفق علي مدي خمس عشرة سنة,
وهو ما يعني
ثمانية دولارات شهريا
لكل مريض بالإيدز في إفريقيا
لا تكفي لشراء علبة أسبرين أمريكية.
وقد وصل عدد مرضي الإيدز في إفريقيا
أكثر من30 مليون شخص.
وفي مصر حديث لا يتوقف
عن النمو غير الطبيعي في عدد السكان.
في عام1897 كان عدد المصريين9.7 مليون.
تضاعف الرقم بعد خمسين عاما
ليصل الي19 مليونا عام1947.
وفي أقل من ثلاثين عاما تضاعف الرقم مرة أخري
ليصل عام1976 إلي نحو37 مليونا.
وبعد أقل من ثلاثين عاما
تضاعف الرقم ليصل اليوم
إلي نحو80 مليونا.
وتقول الإحصاءات أيضا
إن استمرار معدلات النمو السكاني الحالية
سوف تصل بعدد السكان إلي160 مليون نسمة
بعد أربعين عاما.
هذه الإحصاءات تقلل من حجم المشكلة إلي حد بعيد.
فإذا كان عدد السكان
قد تضاعف خلال القرن الماضي ثلاث مرات
فليس هناك خطر من
ان نتضاعف ثلاث مرات أخري خلال هذا القرن.
فنحن مازلنا برغم الزيادة السكانية
أحياء نزرع ونصنع وننتج.
هذه الأرقام لا تقول سوي نصف الحقيقة
إلا إذا وضعناها في سياق له معني.
فالموارد المصرية
التي كانت متاحة في نهاية القرن التاسع عشر
لحياة عشرة ملايين نسمة
هي اليوم بالكاد تكفي مليونا واحدا
علي الأكثر من المواطنين.
فقد ذهب إلي غير رجعة
زمن جلابية العيلة التي يرتديها
من ينوب عن العائلة في
المناسبات الاجتماعية
وذهب معها طعام
ذلك الزمن وتعليمه
ورعايته الصحية واحتياجاته المختلفة.
نحن نواجه بالمشكلة السكانية
تحديات أكبر كثيرا من الأرقام
التي تقولها الإحصاءات
عن نمو عدد السكان في مصر.
ومن أخطاء الأرقام أيضا
أن يقارن البعض بين عدد سكان الصين
وعدد سكان مصر.
فأبسط أوجه المقارنة
لابد ان تذكر حقيقة
أن الأراضي غير الصحراوية من الصين
تبلغ نحو7 ملايين كيلو متر,
في حين أن تلك المساحة من أرض مصر,
لا تزيد علي40000 كيلو متر.
أي أن عدد سكان الصين
يعادل18 ضعف عدد سكان مصر
ولكن أراضيها غير الصحراوية
تعادل نظيرتها في مصر175 مرة.
أما إذا أضفت
الموارد البشرية والطبيعية الأخري
فإن المقارنة تبدو مستحيلة.
وليس الإحصاء وحده
مما يحتمل الصدق والكذب من العلوم,
فمثله علوم أخري كثيرة
ولعل من أبرزها التاريخ.
وقد قالت العرب يوما
إنما آفة الأخبار رواتها
وقال تشرشل مرددا
عبارة الفيلسوف الألماني هيجل
إن الشيء الوحيد
الذي تعلمناه من التاريخ
هو أننا لم نتعلم منه أي شيء
وخلال القرن الماضي
نهضت واحدة من أكثر الصناعات
كذبا في التاريخ
وهي صناعة الاعلان
التي تنفق سنويا نحو350 مليار دولار
منها110 مليارات علي إعلانات الإنترنت
و30 مليارا علي إعلانات الطرق واللوحات.
والذين يدافعون عن هذه الصناعة
لا ينكرون ادعاءاتها وكذبها,
ولكنهم توافقوا علي عبارة غريبة
تصف الإعلان بأنه الكذب المسموح.
فلا النشاط الاقتصادي
يستطيع العمل بدون إعلان
ولا يستطيع الإعلان ان يعمل بغير ادعاء أو كذب.
والكذب في الإعلانات قديم قدم الإعلان نفسه
منذ عصر المنادين علي البضائع
في طرقات القري القديمة.
ولكن المهارات تغيرت
والقدرة علي الخداع تعاظمت.
في القرنين السابع عشر والثامن عشر
كان الكذب الإعلاني ملعونا.
ففي صحف أوروبا
روجت الإعلانات للتبغ والسعوط(النشوق)
علي أنه ترياق يجلي الصدور
ويقوي النظر ويمنح الصحة وينعش الجسد.
وكانت إعلانات التمائم والأحجبة تروع الأمهات.
ففي إعلانات تلك الفترة
تهديد للسيدات بأنهن سوف يقتلن أنفسهن
كمدا لأنهن لم يشترين لأطفالهن
الذين ماتوا تميمة كانت
ستقيهم من الموت الذي نزل بهم.
ولن يغفر الرب للأم
إن جاءه طفل ميت بغير تميمة.
وحينما جاء الإنجليز من الصين بالشاي
تم التسويق له باعتباره
إكسير الحياة الذي يمنح القوة والنشاط والحيوية
ولم تجد شركات الشاي مفرا
من التسويق للشاي في مصر
إلا باستخدام الشيخ الشريب.
فهو شيخ يرمز للمكانة لدي المصريين في الماضي
وهو شريب يستمد من الشاي القوة والحيوية.
وفي عصرنا هذا استطاعت صناعة الإعلان
أن تدفع المرأة المكسيكية
لاقتصاد ثمن مشروب غازي
واحد تقدمه كل أسبوع لزوجها
في احتفالية خاصة يباهي بها
سكان قريته بدلا من
عصير الفواكه المتوافرة بكثرة.
فقد جعلت صناعة الإعلان
من المشروبات الغازية
رمزا للشباب والحيوية والمكانة والعصرية.
أما المشروبات الوطنية
التي اعتادها الناس
فقد أصبحت في ذمة الماضي ومجالا للسخرية
ممن يصرون علي تعاطيها
برغم قيمتها الغذائية العالية
والمهمة للفقراء علي الأقل.
وقد نتسامح مع الإعلان
فيما ينشره من ادعاءات ووعود
لا يستطيع تحقيقها
إلا أن الخطورة في الإعلان
أنه أصبح مؤسسة تعليمية
تزرع الاتجاهات المادية والاستهلاكية
في النفوس وتستغل إلي أقصي درجة
أحلام البسطاء والفقراء من الناس.
وخلال العقود الأخيرة سيطرت
صناعة الإعلان علي وسائل الاعلام
التي تعتمد في تمويلها عليها.
وليست هناك وسيلة إعلامية واحدة
في العالم تعتمد علي الإعلان
لا تخضع لضغوط المعلنين مهما قالت عن استقلالها.
فقد أصبح كل شيء في وسائل الإعلام
من التقارير الإخبارية
الي أخبار الطقس
عرضة لضغوط المعلنين.
وهي ضغوط متعارف عليها
ولا يحتويها عقد مكتوب.
والإعلانات جزء رئيسي
من محتوي وسائل الإعلام
تحيط بالناس وتمطرهم بوعود لن تتحقق.
ومع أن الناس يعلمون
أن الإعلان لا يقول الحقيقة,
لكنهم يبحثون عنه
ويتسابقون الي ما يدعو له
من سلع وخدمات.
فكما يقولون السعادة
تصيب الكثيرين منا
إن وجدوا من يتحمل عبء الاختيار عنهم.
لقد تعقدت سبل الحياة
إلي حد التسامح مع الكذب الصريح
والملعون علي السواء.
____________________
مقالة نُشرت
بجريدة الأهرام
يوم الأحد
الموافق 21-مارس -2010
بقلم الدكتور:حمدى حسن أبو العينين.
المقالة
ممتازة وأكثر من ممتازة
وبتتكلم عن الأعلان وأثره فى حياتنا.