ثـــورة اجتمـاعيــة وســيـاســية جديــدة!
د. عبد المنعم سعيد
قطع صديقي الدكتور أحمد جلال الاقتصادي المعرف ورئيس منتدي البحوث الاقتصادية حديثه بالقول: إن في مصر الآن ثورة اجتماعية كاملة الأركان وقالها بطريقة تقريرية بسيطة كما لو كان ينقل اخبار الطقس, ومضي بعد ذلك يشرح بهدوئه المعروف وكأنه لم يزلزل الأرض توا بهذه العبارة البسيطة.
كنا قد اجتمعنا مع عائلاتنا في يوم تحرير سيناء علي شاطئ في العين السخنة في مناخ صحو ورائع اجتمعت فيه السماء الصافية, حيث الزرقة ممتدة حتي ما لانهاية, بينما وراءنا جبل الجلالة يعطي تناقضه الاخاذ مع مياه خليج السويس, وحيث لايوجد لا في الهواء ولا في الماء ذرة من تلوث, فتري الاسماك والطبيعة قريبة, ولو كنت صبورا قليلا فسوف يعطيك الحظ متعة النظر إلي اسماك الدولفين العملاقة وهي تمرح في الافق سعادة بعالم لم يفسده الانسان بعد.
وتلك قصة أخري عن العين السخنة, ولم تكن الاخبار قد وصلت بعد عن امكانات نقل مصنع اجريوم للأسمدة من موقعه الحالي في دمياط إلي المنطقة القريبة, وهكذا كان طبيعيا أن نفعل معا ما نفعله دائما وهو أن نضع الحالة المصرية موضع البحث.
وهكذا مضي صديقي يفصل في ثورته الاجتماعية ربما دون ادراك لتأثير كلمة الثورة علي عالم السياسة حيث تأخذ ابعادا أخري غير تلك التي تولدها لدي عالم الاقتصاد أو الاجتماع. ودون بحث عميق عن انواع الثورات, فقد ثبت في التاريخ ان الثورات السياسية يمكنها ان تنتكس أو تتراجع, وفي الارجح فإنها يمكنها توليد أوضاع مأساوية, وفي بلاد قادت إلي ديكتاتورية قاسية, وفي بلاد أخري كانت النتيجة حروبا ممتدة.
وكان ممكنا للثورة الفرنسية العظيمة ان تتحول إلي امبراطورية نابليونية تنتهي بعدها الثورة بالهزيمة, أما الثورة البلشفية فقد انهار بناؤها وسقطت كما تسقط أوراق الخريف بعد سبعة عقود من الغناء لها باعتبارها منقذا للبشرية كلها.
والثورة الايرانية بدت شامخة وهي تسقط حكم الشاه والسافاك ولكنها وضعت أسس الدولة الدينية في المنطقة ومعها دولة من المخابرات السياسية والاخلاقية جعلت شعبا منتجا ومبدعا واقعا لأسر حالة الدول النامية حيث حلقات التخلف الجهنمية حاكمة ومستحكمة.
وربما لاتوجد هنا حاجة للحديث عن الثورة المصرية, لأن ما نريد تأكيده ربما لن يكون موضع خلاف, وهو ان الثورات الاجتماعية والاقتصادية ـ ونضيف التكنولوجية ـ ربما كانت هي الابقي تاريخيا, بل انها غير قابلة للانتكاس لانها تضع اسسا موضوعية لتغير المجتمعات وتنقلها من حالة إلي حالة أخري أرقي وأعلي.
وبدون الدخول في كثير من التفاصيل فإن واحدة من نقاط انطلاق الثورة الاجتماعية الجديدة هي ما جري للتعليم في مصر خلال العقود الاربعة الأخير حينما تم اولا استيعاب كل من هم في سن التعليم تقريبا داخل العملية التعليمية في المرحلة الابتدائية حتي وصلت النسبة إلي قرابة98%, وحينما تم ارتفاع نسبة الاستيعاب بشكل جوهري في المراحل التعليمية التالية. ونجم عن ذلك ارتفاع في عدد المتعلمين ـ أو الحاصلين علي حد ادني من التعليم ـ بين البالغين من25,8% عام1960 إلي31,6% عام1970 إلي39,3% عام1980 إلي71,4% عام2003.
ومعني ذلك انه وفقا للمعايير الاجتماعية ان الكتلة الحرجة من السكان قد تغيرت جوهريا عما كان عليه الحال من قبل, ويؤكد هذه الحقيقة ثانيا أن الفجوة بين الإناث والذكور في العملية التعليمية في مصر قد تلاشت هي الأخري, وبعد أن كانت نسبة الإناث إلي الذكور في عام1970 هي62.8% فإنها أصبحت98.3% عام2003, والآن فإن عدد الإناث يزيد في المرحلة الجامعية علي الذكور.
أعلم أن ثورة علي الثورة الاجتماعية سوف تجري فور ذكر ما سبق بالتأكيد علي مستوي التعليم ومدي تخلفه من حيث النوع والمضمون, واعلم ان هناك من سيثير ألف تحفظ علي نوعية السوفت وير المتحكم في سلوك الاناث ومدي ملاءمته لتعبير الثورة الاجتماعية, وكل ذلك مفهوم, ولكنه لايغير في الأمر شيئا من الناحية الموضوعية وهو أن كتلة حرجة وكبيرة من المواطنين في مصر قد امتلكت معارف, ومفاتيح لمعارف, لم تكن متوافرة لها من قبل. ويؤكد الدكتور أحمد جلال علي أمرين:
الأول ان التعليم في مصر علي سوئه من حيث النوع, فإنه ليس سيئا إلي الدرجة التي نتصورها حتي نجعله مساويا للجهل, ووفقا للمقاييس العالمية فإن مصر تقع في مكانة متوسطة بين الدول النامية في هذا المضمار.
والثاني انه لم يحدث في مجتمع من المجتمعات ان تعرض الاناث لهذا القدر من التعليم دون ان يكون ذلك مقدمة لثورة اجتماعية جبارة وهو ما حدث في مصر بالفعل عندما تناقصت معدلات المواليد, وانخفض حجم الاسرة المصرية من7 إلي أقل من4 وبالتالي زاد دخلها وتوقعاتها واحلامها, مهما كانت الاتجاهات المحافظة قد هيمنت علي المجتمع.
لاحظ هنا ـ وبعد أن توقف حديث الدكتور احمد جلال ـ ان الثورة الاجتماعية لم تجر فقط في مجال التعليم, وانما جرت فيها روافد عدة, وعندما ارتفع العمر المتوقع عند الميلاد حتي وصل إلي69 سنة بين الذكور و72 سنة بين الاناث, وعندما تراكم التقدم الاقتصادي بين سنوات التقدم واعوام الركود فتغيرت طبقات وشرائح اجتماعية وصعدت مهن وسقطت أخري وتغير المضمون في كل الاحوال, وعندما تغيرت التكنولوجيا وانتقلت من الثورة الصناعية الثانية إلي الثورة الصناعية الثالثة ووجدت آثارها فورية وفوارة داخل المجتمع المصري من استخدامات الكمبيوتر إلي الانترنت إلي التليفون المحمول, وعندما ـ قبل كل هذا وبعده ـ انتقل العالم من الحرب الباردة إلي العولمة الاقتصادية والتكنولوجية, نتيجة ذلك كله هي ثورة اجتماعية بكل المقاييس يمكننا ان نلمس ظواهرها الايجابية والسلبية بأشكال شتي من اول اشكال المساهمة المختلفة في زيادة الانتاج القومي وحتي انتحار الشباب علي الشواطئ الايطالية!!
وربما كانت المعضلة الكبري امام ما يجري في مصر من تغيرات هو ان الاعتراف بها لايزال بطيئا للغاية, ليس فقط في داخل الحزب الوطني والحكومة بل ايضا داخل كل القوي السياسية, والأخطر بين المثقفين والاعلاميين الذين تبدو مصر بالنسبة لهم في حالة مستمرة ساكنة ومصمتة.
المدهش في الموضوع ان لهذا الواقع, أو هذه الثورة الاجتماعية, تعبيراتها الظاهرة للعيان وبشكل مثير ايضا.
وبينما الجماعة السياسية مغرقة في البحث عن المرجعية الدينية والتفسيرات الفقهية وراء جميع القوانين واللوائح فان المجتمع يمارس السياسة بطريقته الخاصة حيث تم تجميع المصالح وبلورتها والدفاع عنها بوسائل مبتكرة.
وبينما يري جمع منا ان قضية المعارضة هي الكفاح من فوق سلالم النقابات المهنية امام أكبر عدد ممكن من كاميرات التليفزيون للقنوات الفضائية المحلية والعربية والعالمية, فإن المعارضة الحقيقية للسياسات الحكومية تهدف إلي تغييرها وليس الصراع معها أو تسجيل النقاط امامها.
والأمثلة علي ذلك كثيرة خلال العامين الأخيرين حينما تنامت ظاهرة الاضرابات بين الموظفين والعمال ـ الأكثر تعليما وصحة وقدرة علي الاتصال ـ حينما ظهر جيل جديد من القيادات التي لم تعرف التقاليد الخشبية للحركة النقابية المصرية, ولم تعرف التقاليد الحنجرية للطبقة السياسية المصرية.
وببساطة كانت الاضرابات والاعتصامات ممارسة للسياسة بوسائل متحضرة تدور حول مطالب محددة معظمها اقتصادية, واجتماعية جري حسابها والاستعداد للحوار بشأنها بالمنطق والحجة, ولم تكن مفاجأة ان فتاة من بنها بدأت دعوة لاضراب علي شبكة الفيس بوك كان القصد منه الامتناع عن استهلاك سلع ارتفعت أسعارها ارتفاعات غير مبررة أو مقبولة, وكان ممكنا لهذه الحركة ان تثمر نتائج مشابهة لنتائج حركات في العالم المتقدم, لولا انها اختلطت بالاحزاب والقوي السياسية المختلفة التي حولتها إلي ماليس فيها, ووضعت لها شعارات وآفاقا لم تكن منها.
وربما كانت انضج التعبيرات عن الثورة الاجتماعية الجديدة ما جري في محافظة دمياط عندما تحرك المجتمع الأهلي, والسلطة التنفيذية ممثلة في المحافظ, والقوي السياسية المختلفة داخل المجتمع, لكي يقفوا امام بناء مصنع اجريوم للاسمدة.
وبغض النظر عن الحجج المختلفة في الموضوع ومدي صلابة كل منها وعلاقته بالمصلحة العامة, فإن أهل المحافظة كسبوا المعركة لأنهم اداروها بحنكة وحصافة لم تصل لها احزاب أو جماعات سياسية من قبل.
والموقف لم يكن هنا جماعيا وموحدا فقط, بل اضيف له حركة تستخدم كل وسائل التكنولوجيا والاتصال الحديثة من أجل شرح وجهة نظر الناس. لم تكن هناك اتهامات ولا تهديد ولاشعارات غير مسئولة, ولا كان هناك ضعف في ادراك ان الخيار بين المصنع والبيئة هو خيار صعب, ولكن الموقف كان في النهاية واضحا وحازما, وهو ان الناس لم تعلم في الوقت المناسب بحكاية المصنع وأنه مهما كانت فوائد المصنع فهي اقل بكثير بالنسبة لأهل دمياط من الاضرار الناجمة عنه, ولما كان الحال كذلك فانه علي الدولة ان تبحث للمصنع عن مكان آخر.
قضية المصنع هنا ليست هي الموضوع, وقد تم التعرض لها في الاسبوع الماضي علي أية حال, ولكن ما يهمنا هو ان الثورة الاجتماعية الجديدة تولد ثورة سياسية بالفعل من نوع جديد هي الأخري, وطوبي لمن يعرف كيف يجعل هذه الثورة وتلك جزءا من عملية انطلاق مصر نحو المستقبل!!
عن صحيفة الاهرام المصرية5/5/2008
الخميس، مايو 22، 2008
دكتور عبد المنعم سعيد:ثورة اجتماعيه جديدة
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
هناك 8 تعليقات:
السلام عليكم
مش عارف أنا مقريتش المقال كله
قريت حاجات كده
لأنه طويييييل أوي
خدي بالك أنا شيش بيش
يعني تبقى تسجلي لي
مقالاتك صوت عشان مش هعرف أقرا كل ده
طبعا بعد الاختصار
تحياتي
آدم
السلام عليكم
طبعا هو تطرق لمشكلتين وقال عن الثانية انها ليست الموضوع ولكن لى تعليق فيها لماذا حتى الان لم تحل هذة المشكلة التى ترتبط بصحة وامان ناس عاديين طالبوا بكل بساطة وبخوف على اولادهم الا يتم عمل المصنع.. سؤال وراة اجابة اكيد مريبة
اما عن الثورة ومعدل الاناث الذى زاد فى التعليم عن الذكور فهو ليس بجيد خصوصا اذا قسنا ان كل بنت تريد مستواها فى التعليم فمن اين ستحصل على زوج كذلك ويل لأمة رجالها تركوا كل شئ للمراءة
اما بالنسبة لاولاد الزنا فمعك كل الحق
ولكن لو كانت اخلاقة تشفع لة عن نفسى ازوجة بنتى شريطة ان اجد فية خلقيا مالا اجدة فى الاخرين
موضوعك رائع
وكنت اتمنى ان اطيل
ولكن اكتفى بذلك واتمنى التواصل معى
لاننى سعيد بمدونتك وبتعليقك والمح انسانة بمنتهى الذكاء
تحياتى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ادم
اسجل صوت وكمان بعد الاختصار ده حاجة صعبة اوى!! بس ممكن ابقى اكبر الخط لو حبيت؟
المقال كان بجريدة الاهرام يوم 5/5
المهم هل توافق الدكتور احمد جلال ان فيه فعلا ثورة اجتماعية فى مصر الان؟
وتقبل تحياتى
norahaty
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لا يا صديقـتي
أنا لم أقرأه أصلا
للمشكلات التي وصفتها لك ِ
سامحينيي
عادي ممكن تكبري الخط
أنا موافق على كده
ههههههههههه
تحياتي
آدم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أستاذ طارق
الجزء الاول ممنوع الرد عليه باوامر
عليا ياسيدى لحين معرفة كيفية الخروج من الورطة (اللى هم فيها بعد ال.... الكبيرة اللى اخدها الكبار منهم ووقفة اهالى دمياط ضدهم وقفة رجل واحد .....ياربى ما فى الا راس البر والمحمية الطبيعية اللى يبنوا فيها مصنع للاسمدة؟؟!!!!! ولكنة الافساد فى الارض هذا ما اقوله انا دائمآ)
هذا عن اولا
اما ثانيآ:فاعفنى من الاجابة لانى جاوبت مرة وسببت لى مشاكل كثيرة.ولكنى وبأختصار مع تعليم المرأة ولكن عدم العمل الا فى مجالات معينة (وبلاش اتكلم احسن اقول لك.)
وثالثآومعذرة انا لا استطيع ان افعل مثلك واقول بصراحة اكثر اننا إذا وضعنا موضع التنفيذ كثير من افكارنا النظرية لا نحققها ...بكل صراحة ووضوح
وتشكرات كثيرة لكلامك الطيب عنى
ومعرفة خير ان شاء الله
ولك تحياتى
norahaty.
السلام عليكم
adam
نزلت لك طبعة مخصوصة ارجو ان تقبلها
وشكرآ.
أشكرك جدا
وأنا أوافقه أن هناك ثورة تحدث في مصر بالطبع
ثورة في جميع المجالات وعلى كل المستويات
أخلاقية
معلوماتية
اقتصادية
توعوية سياسية
أشياء كثير
تحياتي
آسف مرة أخرى لتعبك
آدم
إرسال تعليق