الأحد، مايو 18، 2008

الجنرال لا يجرؤ علي اعتقال الفيلسوف


حكايـة سياسية

بقلم : محمد عيسي الشرقاوي

عندما تخرج في الجامعة‏,‏ عمل مدرسا‏..‏ وبرغم ولعه بالافكار ودراسته للفلسفة حلقت به اجنجة الخيال في مدارات الفن الجميل‏,‏ ونشر روايته الأولي الغثيان عام‏1938...‏ وانطلقت من حبكتها شهرته‏...‏ وركض جان بول سارتر في دروب الدنيا واشتبك مع قضاياها اشتباكا حميما وعنيفا‏..‏ وصار نجما أدبيا وفيلسوفا‏..‏ولم يكن جان بول سارتر يحفل بالسياسة ابان سنوات شبابه الأولي‏,‏ وإن كان ييمم عقله ووجدانه نحو اليسار‏....‏ وعندما تم تجنيده عام‏1939‏ ابان اندلاع الحرب العالمية الثانية‏,‏ لم يشترك مع الجنود الفرنسيين في قتال الغزاة الألمان النازيين الذين احتلوا باريس‏...‏ فقد كان بصره ضعيفا‏..‏ ووقع في أسر الألمان‏,‏ ولكنه تمكن من الهرب بعد تسعة أشهر‏...‏ وأنضم للمقاومة الفرنسية السرية‏..‏وأبدع سارتر فكرا فلسفيا رفيعا في كتابه المهم الوجود والعدم‏..‏ كما كتب روايات ومسرحيات شتي‏....‏ وكان يمشي دوما في طرقات باريس ويحلو له الجلوس علي مقعد في مقهي ليقرأ ويكتب‏..‏ وكان يؤمن بضرورة التزام الكاتب بقضايا الإنسان‏,‏ ولذلك كان انخراطه في السياسة عظيما ومدويا‏...‏ فقد هاجم بضراوة اجتياح الدبابات السوفيتية للمجر عام‏1956‏ وسحق إرهاصات الحرية التي قادها إيمري ناجي للافلات من الهيمنة السوفيتية‏...‏ وفي ذات الوقت هاجم العدوان الثلاثي علي مصر‏.‏ وعندما تفجرت الحرب الأمريكية علي فيتنام‏,‏ شن سارتر هجمات سياسية ضد السياسة الأمريكية‏,‏ واشترك في المظاهرات التي تندد بالحرب‏...‏ وكان يؤيد الثورة الجزائرية وحركة التحرر الإفريقية‏...‏ واتخذ من الجنرال ديجول الرئيس الفرنسي هدفا لانتقاداته‏...‏ وصب عليه سيلا من مقالاته‏...‏ وكان يري أن الجمهورية الرابعة قد قضت نحبها ويتعين تشييع جنازتها ودفنها‏.‏ ولذلك انضم الفيلسوف مؤيدا ومناصرا لثورة الطلبة التي اندلعت في مايو‏1968,‏ احتجاجا علي اختلال التعليم الجامعي‏,‏ وطلبا للتغيير السياسي والاجتماعي‏...‏ والقي كلمة موحية أمام الطلبة في ساحة جامعة السربون قال لهم فيها‏:‏ أنبثق منكم ما يثير الدهشة‏..‏ سأدعوه توسيع نطاق حقول الممكن‏....‏ لا تتراجعوا‏...‏وكان من الطبيعي أن يؤرق مايو‏68‏ الجنرال ديجول بطل فرنسا إبان الحرب العالمية الثانية‏...‏ وبحث مع قادة الجيش احتمالات التدخل‏...‏ وعندئذ اقترح عليه وزير الداخلية اعتقال سارتر‏...‏ لكن الجنرال نظر إلي وزيره شذرا‏,‏ ورفض اقتراحه وهو يقول‏:‏ لا يمكن اعتقال فولتير‏,‏ في اشارة إلي فيلسوف التنوير والثورة الفرنسية‏.‏ واللافت للانتباه أن مايو‏68‏ لم يكن حدثا تاريخيا فرنسيا‏,‏ وإنما كان حدثا كونيا‏,‏ ذلك أن حركات الاحتجاج دوت‏,‏ دون تخطيط أو تدبير مسبق‏,‏ في دول أوروبا الغربية والشرقية‏...‏ وامتدت إلي أمريكا والمكسيك والبرازيل‏,‏ ولهذا يقول كاتب أوروبي في الذكري الأربعين هذه الأيام لمايو‏68..‏ إنه لم يوجد من قبل مثل‏68,‏ ومن المرجح ألا يوجد مرة أخري‏...‏كان ذلك زمن الحلم الجميل بإمكان تحقيق اليوتوبيا‏...‏ والمدن الفاضلة قبل أن تجتاح الدنيا أعاصير العولمة‏...‏غير أن الحلم لايزال يتوهج بالرؤي‏,‏ برغم القيظ والغيظ‏...‏

ليست هناك تعليقات: